[FONT=Tahoma (Arabic)]عائض القرني[/FONT]
[FONT=Tahoma (Arabic)] [/FONT]
ملخص الخطبة
1- أول ليلة في القبر وفراق الإلف. 2- بعض ما قيل في الموت والفراق. 3- قصة وحزن على فقد من مات. 4- نصيحة أبي العتاهية عن فجأة الموت. 5- دفن ذي البجادين وبكاء النبي عليه. 6- خوف عمر بن عبد العزيز من الموت. 7- خوف عثمان من الموت. 8- قصة مؤثرة في موت امرأة.
الخطبة الأولى
عباد الله:
فارقت موضع مرقدي يومـاً ففارقني السكون
القبــر أول لليـلـة بالله قـل لـي ما يكون
وهذا الشاعر العربي يقول:
فارقت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون
القبـر أول ليلـةٍ بالله قل لـي ما يكون


أول ليلة في القبر، بكى منها العلماء، وشكى منها الحكماء، وصنفت فيها المصنفات.
أول ليلة في القبر، أتي بأحد الشعراء وهو في سكرات الموت، لدغته حية، وكان في سفر، فنسي أن يودع أمه، وأباه، وأطفاله، وإخوانه، فقال قصيدة، يلفظها مع أنفاسه، تعد من أهم المراثي العربية، يقول وهو يزحف إلى القبر:
فلله درّي يوم أترك طائعـاً بنيّ بأعلى الرقمتين وداريا
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني وأين مكان البعد إلا مكانيا



كلا.. الآن تراجع حسابك، الآن تتوب، الآن تكف عن المعاصي، يا مدبراً عن المساجد ما عرفت الصلاة، يا معرضاً عن القرآن، يا منتهكاً لحدود الله، يا ناشئاً في معاصي الله، يا مقتحماً لأسوار حرسها الله، آلآن تتوب، أين أنت قبل ذلك؟!.
أول ليلة في القبر:
ذكر مؤرّخ الإسلام في تاريخه قال: مات الحسن بن الحسن، من أولاد علي بن أبي طالب – رضي الله عنه وأرضاه – كانت عنده زوجة وأطفال، وكان في الشباب، والموت لا يستأذن شاباً، ولا غنياً، ولا أسيراً، ولا ملكاً، ولا وزيراً، ولا سلطاناً.
الموت يقسم الظهور، ويخرج الناس من الدور، وينزلهم من القصور، ويسكنهم القبور.
مات الحسن بن الحسن فجأة، فنقلوه إلى المقبرة، ووجدت عليه امرأته، وحزنت حزناً لا يعلمه إلا الله، فأخذت أطفالها، وضربت خيمة حول القبر[1] – هكذا ذكر مؤرّخ الإسلام – وأقسمت بالله لتبكين هي وأطفالها على زوجها سنة كاملة. هلع عظيم، وحزن دائم، وبقيت تبكي على زوجها، فلما وفت سنة، أخذت أطناب الخيمة وحملتها، وأخذت أطفالها في الليل، فسمعت هاتفاً يقول: هل وجدوا ما فقدوا؟ فردّ عليه آخر قائلاً: لا بل يئسوا فانقلبوا، ما وجدوا ما فقدوا، ما وجدوا ضيعتهم ولا وديعتهم.
كنزٌ بحلوان عند الله نطلبه خير الودائع من خير المؤدّين
هذه هي أول ليلة، ولكن هناك ليالٍ أخرى قال الله تعالى:


لقد ودّعنا منذ شهر شابين، وقع لهما حادث انقلاب سيارة، وكان عزاؤنا أنهما من الشباب الصالح المستقيم على أمر الله تعالى؛ أما أحدهما فقد كان صاحباً للقرآن، وكان القرآن صاحبه، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه))[2].
هذا الشاب كان يختم القرآن كل سبعة أيام، وقالت أمه وأبوه: إنه كان يقوم الليل لله رب العالمين، ولذلك خفّت المصيبة، لأنه قدم على قبر هو روضة من رياض الجنة، - إن شاء الله تعالى -.
وأما الثاني: فقد كان مستقيماً على أمر الله، لا يعرف إلا السجود، والمصحف، والرفقة الصالحة


أتى أبو العتاهية يقول لسلطان من السلاطين، غرته قصوره، وما تذكّر أول ليلة ينزل فيها القبر، ونحن نقول لكل عظيم، وكل متكبّر، وكل متجبّر: أما تذكرت أول ليلة!!
هذا السلطان بني قصوراً عظيمة في بغداد، فدخل عليه أبو العتاهية يهنئه على تلك القصور فقال له:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
عش ما بدا لك سالمـاً في ظل شاهقة القصور
يجري عليك بما أردت مع الغـدو مع البكـور
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهنـاك تعلـم موقنـاً ما كنت إلا فـي غرور
أول ليلة في القبر.
وأنا أطالب نفسي وإياكم معاشر المسلمين أن نهيئ لنا نوراً في قبورنا أول ليلة، ولا ينير القلوب إلا العمل الصالح، بعد الإيمان بالله.
خرج النبي



قال ابن مسعود: قلت من هذا؟ قالوا: هذا أخوك عبد الله ذو البجادين؛ مات في أول الليل. قال ابن مسعود: فوددت والله أني أنا الميت.
كان عمر بن عبد العزيز أميراً من أمراء الدولة الأموية، يغيّر الثوب في اليوم أكثر من مرة، الذهب والفضة عنده، الخدم والقصور، المطاعم والمشارب، كل ما اشتهى وطلب وتمنى تحت يده، وعندما تولى الخلافة وأصبح مسئولاً عن المسلمين، انسلخ من ذلك كله؛ لأنه تذكّر أول ليلة في القبر.
وقف على المنبر، فبكى يوم الجمعة، وقد بايعته الأمة، وحوله الأمراء والوزراء، والعلماء، والشعراء، وقواد الجيش، فقال: خذوا بيعتكم، قالوا: ما نريد إلا أنت، فتولاها، وهو كاره، فما مرّ عليه أسبوع، إلا وقد هزل وضعف وتغيّر لونه، ما عنده إلا ثوب واحد، قالوا لزوجته: مال عمر؟ قالت: والله ما ينام الليل، والله إنه يأوي إلى فراشه، فيتقلّب كأنه ينام على الجمر، يقول: آه آه، توليت أمر أمة محمد

قال له أحمد العلماء: يا أمير المؤمنين، رأيناك وأنت ولي مكة، قبل أن تتولى الملك، في نعمة وفي صحة وفي عافية، فمالك تغيّرت، فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، ثم قال لهذا العالم وهو ابن زياد: كيف يا ابن زياد، لو رأيتني في القبر بعد ثلاثة أيام، يوم أجرد عن الثياب، وأتوسد التراب، وأفارق الأحباب، وأترك الأصحاب، كيف لو رأيتني بعد ثلاث.. والله لرأيت منظراً يسوءك، فنسأل الله حسن العمل.
والله لو عاش الفتى في عمره ألفاً من الأعوام مالك أمره
متنعمـاً فيهـا بكـل لذيـذة متلذذاً فيها بسكنى قصـره
لا يعتريه الهم طـول حياتـه كلا ولا ترد الهموم بصدره
ما كان ذلك كله في أن يفـي فيهـا بأول ليلـةٍ في قبره
ماذا أعددنا لتلك الليلة والنبي

كان عثمان بن عفان

والقبر روضـةٌ من الجنان
أو حفرةٌ من حفر النيـران
إن بك خيراً فالذي من بعده
أفضل عنـد ربنـا لعبـده
وإن يكن شـراً فبعـده أشد
ويل لعبدٍ عن سبيل الله صد
عباد الله :
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] هذا العمل غير مشروع في الإسلام ، وإنما هكذا ذكر الذهبي.
[2] أخرجه مسلم (1/553) رقم (804).
[3] أخرجه الترمذي (4551) رقم (260) وقال : غريب.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين. أما بعد:
أتيـت القبـور فناديتهـا أين المعظّـم والمحتقـر
تفانوا جميعاً فمـا مخبـرٌ وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أمـا لك فيما مضى معتبر
تروح وتغدو بنـات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور
ولدتـك أمـك يا ابن آدم باكيـاً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكـوا في يوم مـوتك ضاحكاً مسروراً
ذهب الرجل بأهله واعتمر، وفي طريق العودة أتى الأجل المحتوم



انحرف إطار السيارة فانقلبت، ووقعت المرأة على رأسها، ولكنها شهيدة إن شاء الله.


خرج زوجها من السيارة، ووقف عليها وهي في سكرات الموت تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، الله.. الله، الله ثم قالت لزوجها: عفا الله عنك، اللقاء في الجنة، بلغ أهلي السلام:


نسأل الله تعالى أن يجمع تلك الأسرة في الجنة إنه على كل شيء قدير.
بنتـم وبِنّا فمـا ابتلّت جوانحنـا شـوقاً إليكم ولا جفّت مآقينـا
تكـاد حين تناجيكـم ضمائرنـا يقضي علينا الأسى لولا تأسيّنا
إن كان قد عزّ في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشـر نلقاكـم ويكفينا
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنهـا الجـار أحمد والرحمن بانيها
قصـورها ذهب والمسك طينتهـا والزعفران حشيش نابتٌ فيها
عباد الله:
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال:


وقد قال

اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك ومنك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم (1/288) ، رقم (384).